في بلد أصبحت فيه الأزمات جزء من الحياة اليومية، لم تَعُد الرؤى الإصلاحية كافية إن لم ترتبط بالواقع المعيشي. وفي ظل هذا التناقض بين السياسات النظرية والتجارب الميدانية، تبرز ضرورة فتح نقاش جدي حول سؤال محوري: كيف يمكن للبنان أن يعيد بناء اقتصاده الإنتاجي من القاعدة، لا من القمة؟
في شباط عام 2025، قدّم وزير الاقتصاد الدكتور عامر بساط، والخبير الاقتصادي والمالي الدكتور إسحاق ديوان ورقة بحثية بعنوان "نحو لبنان جديد ومنتِج" عبر معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، تُشكّل خارطة طريق شاملة لإعادة بناء النموذج الاقتصادي اللبناني على أسس إنتاجية، بديلًا عن النموذج الريعي القائم على المضاربة والاقتصاد غير المنتج.
يُجادل الكاتبان بأن الخروج من الانهيار الاقتصادي المزمن الذي يرزح تحته لبنان يتطلّب تحوّلًا جذريًا في البنية الاقتصادية، يُعيد الاعتبار للقطاعات المنتجة، وفي مقدّمها الصناعة. غير أنّ هذا التحوّل، بحسب رؤيتهما، لا يمكن أن يُترجم إلى نتائج ملموسة ما لم يُواكب بإصلاحات مؤسّسية ومقاربات دقيقة تعالج التحديات اليومية التي تواجه الفاعلين الاقتصاديين على الأرض، بدءًا من البيروقراطية الثقيلة، وصولًا إلى غياب الثقة بين القطاعين العام والخاص.
في هذا السياق، تكتسب شهادة مارك روفايل، المدير التنفيذي لشركة Atelier Botanique، قيمة خاصة. فمارك لا يتحدّث من خلفية نظرية بل من واقع التجربة، إذ يضيء من موقعه في قطاع الصناعات التجميلية على التحديات البنيوية التي تعترض روّاد الأعمال في لبنان اليوم.
يُلفت مارك إلى أنّ التحدّي الأكبر لا يكمن في مرحلة الإنتاج، بل في ما يليها: من التوزيع إلى التصدير، وصولًا إلى التعامل مع بيئة تنظيمية محدودة الشفافية. ويؤكّد أن المبادرة الفردية ضرورية في هذا السياق، مستشهدًا بتجربته الشخصية في متابعة ملفه مباشرة مع وزارة الصناعة، متجاوزًا وسطاء يُبطئون الإجراءات. هذه التفاصيل تعكس تمامًا ما تطرحه الورقة حول غياب الثقة بين الدولة والمواطنين، وضرورة إعادة بناء هذه العلاقة على أسس من الشفافية والفعالية.
من جهة أخرى، يحذّر مارك من الفوضى التي يشهدها السوق المحلّي، حيث تنتشر علامات تجارية تستخدم شعارات مثل "طبيعي" و"عضوي" من دون رقابة فعلية، وهي ممارسات يرى فيها الباحثان بساط وديوان دليلًا على ضعف الدور التنظيمي للدولة، ما يعمّق فقدان الثقة ويُضعف شروط المنافسة العادلة.
ورغم هذه التحديات، فإن تجربة مارك تعبّر عن بُعد آخر من الورقة: أهمية الشبكات الصغيرة، والتعلّم التعاوني، وبناء مساحات إنتاجية قادرة على الصمود والتطوّر، حتى في ظل غياب البنى التحتية الشاملة. فالمستقبل لا يُبنى بالمشاريع الكبرى وحدها، بل أيضًا من خلال دعم تجمّعات صغيرة من المنتجين المهنيين، كما يشير الكاتبان.
في المحصّلة، يُجمع كلّ من المسار البحثي والميدان العملي على حقيقة واحدة: لا يمكن بناء اقتصاد منتج جديد في لبنان من دون ربط السياسات بالرؤى الميدانية، ومن دون إفساح المجال لأصحاب المبادرات الذين يعملون بصمت وسط التحديات اليومية. فالخطط لا تكفي وحدها، ما لم تستند إلى تجارب حقيقية تعكس تعقيدات الواقع وإمكانات النهوض منه.
استند هذا المقال إلى ورقة بحثية صادرة عن معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت: عامر بساط وإسحاق ديوان (2025). "نحو لبنان جديد ومنتِج".